13 مايو، 2013



الرتل

قصة قصيرة


   ... في وادي النمل أصدرت النملة المسؤولة عن الأمن الخارجي أوامرها:
ــ (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم).. فالرتل قادم.. يدوس كل شيء في طريقه.
وضعت نملة شغّالة قشّتها جانباً وقالت:
ــ هل هو رتل الجنرال؟
ــ بل هو رتل الثوّار.
ــ هل سيدوسوننا هم أيضاً؟
ــ كل الأرتال تدوس.
ــ كل الأرتال؟!
ــ بالتأكيد.. هذا هو القاسم المشترك للأرتال.. تدوس.. تسحق.. تحطّم.. حتى لو كان الرتل يقوده نبي مبعوث من السماء مباشرة!
ــ أنتِ تبالغين في حسّكِ الأمني.
ــ كأنكِ لم تسمعي تحذير جدّتنا: (لا يحطمنّكم سليمان وجنوده).
ــ لكن النبي لا يفعل ذلك عن قصد.
ــ ما الفرق بالنسبة لنا.. أن يحطّمنا رتل عن قصد أو غير قصد؟! ادخلي ودعي القشّة تذروها الرياح.. فالأولوية لسلامة النمل.. إذا مرّ أي رتل فابتهلي إلى الرب حتى يبتعد.
ــ اللهم جنّبنا كل أنواع الأرتال.. ولكن كيف عرفتِ أنه رتل الثوار؟!
ــ من السهل معرفة ذلك.. فالثوّار مولَعون دائماً بإطلاق الرصاص.. حتى حين يتأخر المطر!!

***

(2013)

لحظة عابرة

قصة قصيرة


   ... عصفور يطارد فراشة.. يصطدم بزجاج النافذة.. يسقط في فم القط المتشمّس أسفل الجدار.

     القط يعزو ذلك إلى حسن حظه.. وربما لأن السماء راضية عنه.. لكنه في النهاية يحس بالزهو لأنه اتخذ الموقع المناسب.. وأنّ السماء لا علاقة لها بالأمر.

     القط الآخر يراقب المشهد من فوق السياج: (لا يفعل هذا الكسول شيئاً سوى التمدد والتثاؤب طوال النهار.. وتسقط له العصافير في فمه)!

     الفراشة تُرجع ذلك إلى حسن حظها.. لكنها تشعر بالزهو هي الأخرى لبراعتها في مراوغة العصفور.

     العصيفيرات التي تنتظر وجبتها في العش لا تشعر بأي قلق حتى الآن.. فالأم تتأخر أحياناً.. لكنها في آخر النهار تعود بحوصلة ممتلئة.

     ربّة البيت تكنس الريش المبعثر.. وتلقي باللائمة على القط الذي لا يبالي بتعبها.. لكنها في نهاية الأمر تسلّم بالقدَر.. هذا الشيء الغامض الذي يلقي بالعصافير في أفواه القطط.

     الريش ـ بين المخالب والمكنسة والريح ـ يسأل عن جناحه.. وتصله الحكمة كعادتها متأخرة: (الريش البعيد عن جناحه يخضع لمشيئة الآخرين)!

     النافذة تشعر بالاستياء لأنهم يصطدمون بها دائماً.. كأنّ الربّ لم يضع لهم عيوناً في رؤوسهم!

     الريح لا تشاطر النافذة استياءها.. بل تهبّ: (هذا جزء من عملي.. كنس الأشياء المبعثرة).

   ... وحده العصفور لم يتسع له الوقت ليفهم ما حدث..!!

***

(2013)

زهرة الرِيْنش


قصة قصيرة.


1

   يتشتت ضباب الصباح.. يومض العشب النديّ تحت الشمس الباردة.. تخرج مريم للبحث عن زهرة الرينش في الدغل المحاذي للبيت.. تتمنى أيضاً أن تجد آثار الشيهم الآكل للرينش.. سمعت من معلمتها في الروضة أن قدمي الشيهم الخلفيتين تشبهان قدمي الإنسان.. وربما ستحصل على بعض الشيص أيضاً.. كان صباحها مليئاً بالأماني.. لكنها عادت من رحلتها الاستكشافية لتروي لرفيقاتها في الروضة حكاية أخرى.

2

ــ بنت جيرانكم؟!
ــ كانت متمددة تحت الأغصان.. ترتجف.. الأرض مبللة بعد الضباب.. الأغصان تقطر.. كان شخص ما ــ لم أتبين وجهه ــ يتمدد فوقها.
ــ لماذا يتمدد فوقها؟ هل هي مريضة؟
ــ ليحميها من البرد يا غبيّة! ما قلت لك العشب مَبْلُول!
ــ ماذا قالت لكِ؟
ــ تواريت خلف الأغصان.. خشيت أن تلومني لأنني ذهبت إلى الغابة وحدي.. وعلى كل حال هي لم تلتفت.. مع أنني عطست!
ــ هل ينبغي أن يتمدد الناس فوق بعضهم أثناء البرد؟!
ــ لا أعرف.. المعلّمة لم تقل لنا ذلك.
ــ وماذا حدث بعد ذلك؟
ــ لا شيء.. عدت.. وتركتها هناك تتأوه.
ــ مسكينة.. تتأوه من البرد!
ــ ولكنكِ لم تحكي لنا عن زهرة الرينش؟

***

(2013)

زينب

قصة قصيرة.


1

      ... معلّم التاريخ دائماً غاضب.. حتى خُيّل إلينا أنه سقط من بطن أمّه غاضباً.. غاضب لأن السبورة ليست ممسوحة كما يجب.. أو لأن القِبْلي لا يكفّ عن الهبوب.. أو لأن السماء تمطر.. أو بسبب أن ليبيا ليس فيها نهر.. أو لأن اليوم هو الأربعاء.. أو لأن هتلر لم يستطع احتلال بريطانيا.. ويحلم دائماً بأن يعيد صياغة التاريخ.

     نتلعثم أثناء تحيته.. ترتجف الكلمات على شفاهنا الطفولية.. ونحن متنفَّس غضبه:
ــ امسح السبورة يا فرخ الحرام.
ــ سمِّعْ فتح القسطنطينية يا سرافة.
     تلعثمت في نطق (القسطنطينية).. صفعني حتى سقطت على جاري في الدرج.
ــ كويّس يا حيوان.. نصّ العام وما تعرف حتى تنطق كلمة (القسطنطينية)!

     فجأة تظهر زينب في الشارع المحاذي للمدرسة.. يتطاول معلّمنا بعنقه.. تُشرق أساريره.. يمرّر لسانه على شفتيه.. يناديني: (يا احميدة).. بدل (يا فرخ الحرام)!

2

   ... في اليوم التالي لم تظهر زينب.. رغم اقتراب معلّمنا من النافذة عدة مرات.. (كنا لا نقلّ تطلعاً عن معلمنا لإطلالة زينب).. سدّد إصبعه نحوي:
ــ امسح السبورة يا فرخ الحرام.
     تلقينا الصفع جميعاً هذه المرة.. تسرّب سائل ساخن داخل سراويلنا.. لأننا لم نعرف من فتحَ القسطنطينية! وكرهنا القسطنطينية.. هذه الكلمة اللعينة التي نعجز حتى عن نطقها.. وأصبح يوم سعدنا أو بؤسنا رهناً بظهور زينب أو عدمه.

3

   ... بعد ذلك لم تغب زينب أبداً عن الظهور في الوقت المناسب.. وتغيّرت علاقتنا بمعلّمنا.. لم يعد غاضباً من القِبْلي رغم العجاج المتواصل.. وغفر لهتلر عجزه عن احتلال بريطانيا.. ولم أعد (فرخ الحرام).. لكن الشيء الذي لا يعرفه معلّمنا هو أننا تسلّلنا ذات مساء إلى بيت زينب.. شكونا لها محنتنا.. وأعطيناها جدول حصص التاريخ!


***

(2013)


الأيّام الخوالي
 

قصة قصيرة



    ... زايد.. ومسعودة.. في الحديقة الخلفية للفيلا.. تحت القمر.. الشاي بينهما.. قطرات الشاي التي تتسرب من رقبة البرّاد تُحدث وشوشة محبَّبة فوق الجمرات.. الجو مشبع برائحة الشاي والذكريات:

ــ ما شاء الله.. قمرا شقّاقي!ــ تلقط عليها الإبرة!

ــ تذكّر يا حاج زايد.. أول مرة عرفتك وأنا واردة على البير.

ــ أووو.. وأنتِ شايلة البرميل.. وجهك تحت الشال الأزرق شمس متربعة وسط السماء!

ــ يوم كانت للنساء وجوه!

ــ اغسلي السفرة.. في هذه الأيام فقدت المرأة وجهها.. حوّلوها إلى شيء يتحرك تحت قماش أسود!

ــ ما علينا.. هذا سريب طويل.. وأنت تسقي.. تنشل الدلو.. سروالك مشروط وقفاك حاسر!

ــ حرّكي الجمر.. وأنتِ لسانك طويل.


ــ أنت اللي ما فيك حاجة طويلة غير لسانك! على كل حال.. تعرّفت عليك من قفاك.. كانت أيام!

ــ وكم ليلة بتنا بلا عشاء.. وبلا ضيّ.. لكن كنّا مبسوطين!

ــ في الشتاء مشيت حفيانة على الثلج!

ــ صبّي طاسة.. أنتِ يا مسعودة دفع رباعي!

ــ خطّرت عليّ الدفع الرباعي.. غيّر لنا السيارة بآخر موديل.

ــ والله أنتِ اللي تبي تغيير!

ــ بعد عِشرة عمر يا قليل الخير؟!

ــ حتى البحر ما يكره الزيادة!

ــ أنت يا حاج زايد اللي زايد عن الحاجة! تذكّر يا ازويّد.. في ليلة شتاء قاطب.. خشّ علينا السيل.. طاح البيت.. وسكنّا في حقفة.. راحت الأيام الحلوة!

ــ ونشلتك من وسط السيل وأنتِ مقرورة.. كانت أيّام!

ــ ومرّة ضربتني.. قلت المثرودة ناشفة.. الله يسامحك.

ــ لكن يوم السوق شريت لك رداء.

ــ صحيح.. كنت تجرح وتداوي!

ــ  قبل الراديو والتلفزيون والنقّال كان بلاغ الصوم يجينا بعد الصوم!

ــ وبلاغ العيد يجينا بعد العيد!

ــ يا حسايف على الزمان السمح!

ــ الشاهي مرّ.. حطّي سكّر.

ــ السكّر يضر صحتك.

ــ الحياة مرّة والشاهي مرّ؟! حلّي الشاهي.. تكفينا مرارة المعيشة!

ــ ذنبك على جنبك.. وتذكّر يا زايد سنة الجدب؟

ــ أي جدب؟

ــ سنة الجدب.. صيف عالق في صيف.. قِبْلي.. وعجاج.. جعنا.. وعطشنا.. حتى لوني تغيّر.

ــ لونك متغيّر من غادي.. من يوم يومه!

ــ لا والله.. ما قلت لي: وجهك تحت الشال الأزرق شمس متربعة وسط السماء!

ــ هذا كلام في الواسع!

ــ سنة الجدب الغداء رينش.. والعشاء زنباع.. وحفرنا على الجرابيع.

ــ حطي نعناع.. ايييييه يا مسعودة.. الحياة كانت!


 ***

(2013)